كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: ويقال: إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال والله أعلم: إن فيهم نزلت هذه الآيات: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}. إلخ.
قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنه والآيات اللاتي في سورة المائدة: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا} إلى قوله: {فاكتبنا مع الشاهدين} وأيًا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع، يعلمونه ولا ينكرونه. كي يقفهم وجهًا لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن، وتطمئن إليه، وترى فيه الحق، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب. ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء؛ وتحتمل في سبيل الحق الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء.
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}.
وهذه إحدى الآيات على صحته، فالكتاب كله من عند الله، فهو متطابق، من أوتي أوله عرف الحق في آخره، فاطمأن له، وآمن به، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.
{وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين}.
فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين، وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب. {إنه الحق من ربنا}. {إنا كنا من قبله مسلمين}. والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين.
هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}.
الصبر على الإسلام الخالص. إسلام القلب والوجه. ومغالبة الهوى والشهوة. والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة. أولئك يؤتون أجرهم مرتين، جزاء على ذلك الصبر، وهو عسير على النفوس، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف. وهؤلاء صبروا عليها جميعًا، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية، وكما يقع دائمًا للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان: {ويدرأون بالحسنة السيئة}.
وهذا هو الصبر كذلك. وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية. إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله. درجة السماحة الراضية. التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.
{ومما رزقناهم ينفقون}.
وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان. فهما من منبع واحد: منبع الاستعلاء على شهوة النفس، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض. الأولى في النفس، والثانية في المال. وكثيرًا ما يردان متلازمين في القرآن.
وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}.
واللغو فارغ الحديث، الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه. وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة. وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء: أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب.
والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذاك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء. فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}.
ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله، ولا يدخلون معهم في جدل حوله، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو؛ إنما يتركونهم في موادعة وسلام.
{وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم}.
هكذا في أدب، وفي دعاء بالخير، وفي رغبة في الهداية. مع عدم الرغبة في المشاركة: {لا نبتغي الجاهلين}.
ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!
إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها.
تفيض بالترفع عن اللغو. كما تفيض بالسماحة والود. وترسم لمن يريد أن يتأدب الله طريقه واضحًا لا لبس فيه. فلا مشاركة للجهال، ولا مخاصمة لهم، ولا موجدة عليهم، ولا ضيق بهم. إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.
هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن. ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن؛ ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام. فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليهدي من يحب. إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان.
{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه وينصره، ويقف دونه في وجه قريش، ويحميه حتى يبلغ دعوته، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب. ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبًا لابن أخيه، وحمية وإباء ونخوة. فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فلم يكتب الله له هذا، لما يعلمه سبحانه من أمره.
قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}. وأنزل في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}. أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري.
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. لا أقولها إلا لأقر بها عينك». ونزل قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب. وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب.
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذًا بصرامة هذا الدين واستقامته. فهذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه، لا يكتب الله له الإيمان، على شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حب رسول الله له أن يؤمن. ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة، ولم يقصد إلى العقيدة. وقد علم الله هذا منه، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجوه. فأخرج هذا الأمر أمر الهداية من حصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله خاصًا بإرادته سبحانه وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ. وما على الداعين بعده إلا النصيحة. والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو الضلال.
والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول صلى الله عليه وسلم معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة، التي تعظم الكعبة، وتدين لسدنتها، وتعظم أصنامها، فتتخطفهم تلك القبائل، أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل. فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي، ومن حاضرهم الذي يشهدونه، بعدما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون. ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقية ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات. ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله.
{وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا وكنا نحن الوارثين وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدًا حسنًا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} إنها النظرة السطحية القريبة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}.
فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهمًا وليس قولًا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة.
إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معًا برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض تصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}. فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان. وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعًا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: {أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا}.
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
{ولكن أكثرهم لا يعلمون}. لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله. فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقًا، وأن يأمنوا التخطف حقًا، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا وكنا نحن الوارثين}.
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؛ فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية. {لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا}. وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها. وتروي قصة البطر بالنعمة؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدًا، ولم يرثها بعدهم أحد {وكنا نحن الوارثين}.
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولًا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}.
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزًا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أم القرى العربية. فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}. يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون}.
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده؛ ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده.
إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو كمل، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار. إنه كله {متاع الحياة الدنيا وزينتها}. {وما عند الله خير وأبقى} خير في طبيعته وأبقى في مدته.
{أفلا تعقلون} والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار! وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار: {أفمن وعدناه وعدًا حسنًا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين}.